فصل: ومن باب ولي العبد يرضى بالدية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب في التعزير:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عَن أبي بردة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله».
قلت: قد اختلفت أقاويل العلماء في مقدار التعزير ويشبه أن يكون السبب في اختلاف مقاديره عندهم ما رواه من اختلاف مقادير الجنايات والأجرام فزادوا في الأدب ونقصوا منه على حسب ذلك.
وكان أحمد بن حنبل يقول للرجل أن يضرب عبده على ترك الصلاة وعلى المعصية فلا يضرب فوق عشر جلدات، وكذلك قال إسحاق بن راهويه.
وكان الشعبي يقول التعزير ما بين سوط إلى ثلاثين.
وقال الشافعي لا يبلغ بعقوبته أربعين وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف التعزير على قدر عظم الذنب وصغره على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب فيما بينه وبين أقل من ثمانين.
وعن ابن أبي ليلى إلى خمسة وسبعين سوطًا.
وقال مالك بن أنس التعزير على قدر الجرم فإن كان جرمه أعظم من القذف ضرب مائة أو أكثر.
وقال أبو ثور التعزير على قدر الجناية وتسرع الفاعل في الشر وعلى ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب وإن جاوز التعزير الحد إذا كان الجرم عظيمًا مثل أن يقتل الرجل عبده أو يقطع منه شيئا أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها فيكون العقوبة فيه على قدر ذلك وما يراه الإمام إذا كان مأمونًا عدلًا.
وقال بعضهم لا يبلغ بالأدب عشرين لأنها أقل الحدود وذلك أن العبد يضرب في شرب الخمر عشرون.
وقد تأول بعض أصحاب الشافعي قوله في جواز الزيادة على الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين أنها لا تزداد بالأسواط ولكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام كما روي فيه حديث عبد الرحمن بن الأزهر.
قلت: التعزير على مذاهب أكثر الفقهاء إنما هو أدب يقصر على مقدار أقل الحدود إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عن مبلغ الجناية الموجبة للحد كما أن أرش الجناية الواقعة في العضو أبدًا قاصر عن كمال ذلك العضو وذلك أن العضو إذا كان في كله شيء معلوم فوقعت الجناية على بعضه كان معقولًا أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو.

.كتاب الديات:

.ومن باب الإمام يأمر بالعفو في الدم:

قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف حدثنا حمزة أبو عمر العائذي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن حجر قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النِّسعة قال فدعا ولي المقتول، فقال أتعفو، قال لا، فتأخذ الدية قال لا، قال أفتقتل، قال نعم، قال اذهب به فلما كان في الرابعة قال أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه قال فعفا عنه قال وأنا رأيته يجر النِّسعة».
قلت: فيه من الفقه أن الولي مخير بين القصاص أو أخذ الدية.
وفيه دليل على أن دية العمد تجب حالة في مال الجاني.
وفيه دليل على أن للإمام أن يتشفع إلى ولي الدم في العفو بعد وجوب القصاص.
وفيه إباحة الاستيثاق بالشد والرباط ممن يجب عليه القصاص إذا خشي انفلاته وذهابه.
وفيه جواز قبول إقرار من جيء به في حبل أو رباط.
وفيه دليل على أن القاتل إذا عفا عنه لم يلزمه التعزير.
وحكي عن مالك بن أنس أنه قال يضرب بعد العفو مائة ويحبس سنة.
وقوله: «فإنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه»، معناه أنه يتحمل إثمه في قتل صاحبه فأضاف الإثم إلى صاحبه إذ صار بكونه محلًا للقتل سببًا لإثمه، وهذا كقوله سبحانه: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] فأضاف الرسول إليهم وإنما هو في الحقيقة رسول الله عز وجل أرسله إليهم.
وأما الإثم المذكور ثانيا فهو إثمه فيما قارفه من الذنوب التي بينه وبين الله عز وجل سوى الإثم الذي قارفه من القتل فهو يبوء به إذا أعفي عن القتل ولو قل لكان القتل كفارة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا عبد القدوس بن الحجاج حدثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال إن هذا قتل ابن أخي قال فكيف قتلته قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال هل لك مال تؤدي ديته قال لا، قال أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته، قال لا، قال فمواليك يعطونك ديته، قال لا قال للرجل خذه فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه إن قتله كان مثله فبلغ الرجل قوله فقال هو ذا فمر به ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله قال مرة دعه يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار قال فأرسله».
قال الشيخ قول أما أنه إن قتله كان مثله يحتمل وجهين.
أحدهما أنه لم ير لصاحب الدم أن يقتله لأنه ادعى أن قتله كان خطأ أو كان شبه العمد فأورث ذلك شبهة في وجوب القتل.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه إذا قتله كان مثله في حكم البواء فصارا متساويين لا فضل للمقتص إذا استوفى حقه على المقتص منه.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان حدثني ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمي يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه «أن محلِّم بن جثامة الليثي قتل رجلًا من أشجع في الإسلام وذلك أول غِيَرٍ قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عيينة في قتل الأشجعي لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم لأنه من خندف، قال فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير، قال عيينة لا والله حتى أدخل على نسائه الحرب والحزن ما أدخل على نسائي ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير فقال عيينة مثل ذلك أيضًا إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مُكيتل عليه شِكة وفي يده دَرِقة، فقال يا رسول الله إني لا أجد لما فعل هذا في غرة الإسلام مثلًا إلاّ غنمًا وردت فرُمي أولها فنفر آخرها اسنن اليوم وغير غدًا»وذكر باقي الحديث.
الغير الدية والشكة السلاح وغرة الإسلام أوله.
وقوله: «اسنن اليوم وغير غدًا» مثل يقول إن لم تقتص منه اليوم لم تثبت سننك غدًا ولم ينفذ حكمك بعدك وإن لم تفعل ذلك وجد القائل سبيلًا إلى أن يقول مثل هذا القول، أعني قوله: «اسنن اليوم وغير غدًا فتتغير لذلك سنتك وتتبدل أحكامها».
وفيه دليل على أن ولي الدم مخير بين القصاص وأخذ الدية وأن للإمام أن يطلب إلى ولي الدم في العفو عن القود على أخذ الدية.

.ومن باب ولي العبد يرضى بالدية:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن أبي ذئب حدثني سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت أبا شريح الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلاّ أنكم معشر خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يَقتلوا».
قلت: وفيه بيان أن الخيار إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية وأن القاتل إذا قال لا أعطيكم المال فاستقيدوا مني واختار أولياء الدم المال كان لهم مطالبته به.
ولو قتله جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء ويطالب بالدية من شاء وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنه وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة.
وقال الحسن والنخعي ليس لأولياء الدم إلاّ الدم إلاّ أن يشاء القاتل أن يعطي الدية.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس له إلاّ القود فإن عفا فلا يثبت له المال إلاّ برضا القاتل.
وكذلك قال مالك بن أنس. وفي قوله: «فأهله بين خيرتين» دليل على أن الدية مستحقة لأهله كلهم ويدخل في ذلك الرجال والنساء والزوجات لأنهم جميعًا أهله.
وفيه دليل على أن بعضهم إذا كان غائبًا أو طفلًا لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب لأن من كان له خيار في أمر لم يجز أن يفتات عليه قبل أن يختار لأن في ذلك إبطال خياره، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال مالك وأبو حنيفة للكبار أن يستوفوا حقوقهم في القود ولا ينتظر بلوغ الصغار.
وفيه دليل على أن القاتل إذا مات فتعذر القود فإن للأولياء أن يأخذوا الدية من ورثته وذلك لأنهم خيروا بين أن يعلقوا حقوقهم في الرقبة أو الذمة فمهما فات أحد الأمرين كان لهم استيفاء الحق من الآخر.
وقال أبو حنيفة إذا مات فلا شيء لهم لأن حقهم إنما كان في الرقبة وقد فاتت فلا سبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم.

.ومن باب فيمن سقى رجلًا سَمًّا أو أطعمه شيئًا فمات:

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال كان جابر بن عبد الله يحدث «أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها سممت هذه الشاة، قالت اليهودية من أخبرك، قال: أخبرتني هذه الذراع، قالت نعم، قال فما أردت إلى ذلك، قالت قلت إن كان نبيًّا فلن يضره، وإن لم يكن نبيًّا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجله».
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة وذكر نحو حديث جابر وقال: «فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت» ولم يذكر أمر الحجامة.
قال الشيخ قوله: «مصلية» هي المشوية بالصلأ.
وقد اختلف الناس فيما يجب على من جعل في طعام رجل سمًا فأكله فمات فقال مالك بن أنس عليه القود وأوجب الشافعي في أحد قوليه إذ جعل في طعامه سمًا وأطعمه إياه أو في شرابه فسقاه ولم يعلمه أن فيه سمًا.
قال الشافعي وإن خلطه بطعام فوضعه ولم يقل له فأكله أو شربه فمات فلا قود عليه.
قلت: والأصل أن المباشرة والسبب إذا اجتمعا كان حكم المباشرة مقدمًا على السبب كحافر البئر والدافع فيها. فأما إذا استكرهه على شرب السم فعليه القود في مذهب الشافعي ومالك.
وعن أبي حنيفة إن سقاه السم فمات لم يقتل به وإن أوجره إيجارًا كان على عاقلته الدية.
قلت: أما حديث اليهودية فقد اختلفت الرواية فيه وأما حديث أبي سلمة فليس بمتصل. وحديث جابر أيضًا ليس بذاك المتصل لأن الزهري لم يسمع من جابر شيئًا.
ثم أنه ليس في هذا الحديث أكثر من أن اليهودية أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بعثت بها إليه فصارت ملكًا له وصارت أصحابه أضيافًا له، ولم تكن هي التي قدمتها إليهم واليه وما هذا سبيله فالقود ساقط لما ذكرنا من علة المباشرة وتقديمها على السبب.
وفي الحديث دليل على إباحة أكل طعام أهل الكتاب وجواز مبايعتهم ومعاملتهم مع إمكان أن يكون في أموالهم الربا ونحوه من الشبهة.
وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الهدية توجب العوض وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لا يقبل الهدية من يهودية إلاّ من حيث يرى فيها التعويض فيكون ذلك عنده بمنزلة المعاوضة بعقد البيع والله أعلم.

.ومن باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد:

قال أبو داود: حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة قال: وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه».
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا سعيد بن عامر، عَن أبي عامر، عَن أبي عروبة عن قتادة بإسناد شعبة مثله. وزاد أن الحسن نسي هذا الحديث، فكان يقول لا يقتل حر بعبد.
قلت: قد يحتمل أن يكون الحسن لم ينس الحديث ولكنه كان يتأوله على غير معنى الإيجاب ويراه نوعًا من الزجر ليرتدعوا فلا يقدموا على ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر «إذا شرب فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، ثم قال في الرابعة والخامسة فإن عاد فاقتلوه ثم لم يقتله حتى جيء به قد شرب رابعًا أو خامسًا».
وقد تأوله بعضهم على أنه إنما جاء في عبد كان يملكه مرة فزال عنه ملكه وصار كفأً له بالحرية فإذا قتله كان مقتولًا به.
وهذا كقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا} [البقرة: 234] أي من كن له أزواجًا قبل الموت.
وقد اختلف الناس فيما يجب على من قتل عبده أو قتل عبد غيره فروي، عَن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه لا يقتص منه إذا فعل ذلك وكذلك روي عن ابن الزبير رضي الله عنه وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة القصاص بين الأحرار والعبيد ثابت في النفس. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وهذا فيمن قتل عبدًا لغيره عمدًا وقال سفيان الثوري إذا قتل عبده أو عبد غيره عمدًا قتل به، وقد اختلف عنه في ذلك.
وحكي أنه قال مثل قول أبي حنيفة وأصحابه وأجمعوا أن القصاص بين الأحرار وبين العبيد ساقط في الأطراف، وإذا منعوا منه في القليل كان منعه في الكبير أولى.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث سمرة منسوخ وقال لما ثبتا ثبتا معًا فلما نسخا نسخا معًا يريد لما سقط الجدع بالإجماع سقط القصاص كذلك.